معامل الكابلاج بالمغرب..عبودية وفق القانون
أيوب الكمدي
في قلب منطقة الغرب الصناعية بالمغرب، حيث تتراصف المعامل وتتداخل أصوات الآلات مع همسات العمال، تقف معامل الكابلاج كواحدة من أكثر القطاعات إثارة للجدل، هذه المعامل التي تنتج الأسلاك الكهربائية والمكونات الإلكترونية، توصف من قبل البعض بـ"مصانع العصر الحديث"، لكنها في نظر آخرين تجسد شكلا من أشكال "العبودية القانونية"! فهل يمكن أن تكون هذه المعامل التي تعمل وفق نصوص قانونية، امتدادا لاستغلال الإنسان؟ هذا ما نحاول استكشافه من خلال تحليل ظروف العمل، الأجور، العقود، وسائل النقل، دون إغفال الجوانب القانونية التي تحكم هذه العلاقة الشائكة.
وقت العمل..الواقع المرير
وفقا للمادة 184 من مدونة الشغل المغربية، فإن المدة القانونية لوقت العمل لا يمكن أن تتجاوز 44 ساعة في الأسبوع، مع وجوب احترام يوم راحة أسبوعي. لكن الواقع داخل معامل الكابلاج يروي قصة مختلفة! إذ أنه حسب تقارير ميدانية، يشتكي العديد من العمال من تمديد ساعات العمل بشكل يتجاوز الحدود القانونية، فهم يجبرون على العمل لساعات طويلة دون توقف، تبدأ من 8 ساعات يوميا وقد تمتد إلى 12 ساعة، مع تغيير مستمر في جدول العمل كل أسبوع، مما يحرمهم من أي استقرار في حياتهم اليومية، مع مطالبتهم بالعمل أيام العطل والأعياد، ودون تعويضات تذكر، بل يتجاوز الأمر هذا الحد إلى بعض اتصالات من المشغلين في أيام الراحة، يطلب منهم فيها الحضور للعمل تحت طائلة التهديد بخصم من الأجر أو فقدان العمل.
هذه الممارسات، وإن كانت تخالف روح القانون، إلا أنها تتم تحت غطاء "الضرورة الاقتصادية" أو "الظروف الاستثنائية"، وهي ثغرات يستغلها المشغلون لتبرير انتهاكاتهم. فهل يمكن اعتبار هذا الشكل من العمل قسريا؟ الإجابة قد تكون مثيرة للقلق.
الأجر الشهري..الكفاف لا الكفاية
الأجر هو العقدة الأكبر في هذه المعادلة، إذ يحدد المرسوم رقم 2.23.799 الصادر في 13 أكتوبر 2023، والذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 19 أكتوبر 2023، مبالغ الحد الأدنى القانوني للأجر في المغرب في النشاطات الصناعية بـ 16.29 درهما للساعة، لكن نجد بخلاف ذلك العديد من عمال معامل الكابلاج يتقاضون أجورا تقل عن هذا الحد، خاصة أولئك الذين يعملون بعقود مؤقتة أو غير رسمية، فبينما ينص القانون على وجوب أن يكون الأجر عادلا ومتناسبا مع طبيعة العمل، نجد أن العامل في معامل الكابلاج يتقاضى ما بين 2500 إلى 3000 درهم شهريا، وهو مبلغ لا يكفي لسد احتياجات الأسرة في ظل الارتفاع المتواصل للأسعار والإيجار ومتطلبات المعيشة بشكل عام، خصوصا وأن هذه الأجور المتدنية لا تتناسب مع الأرباح الكبيرة التي تجنيها هذه الشركات، خاصة مع ساعات العمل الطويلة التي لا يتم تعويض العمال عنها بشكل عادل، وهو ما يعتبر خرقا للمادة 353 من مدونة الشعل التي تلزم المشغل بدفع أجر يتناسب مع ساعات العمل الإضافية.
وسائل النقل..رحلة يومية إلى الجحيم
وسائل النقل التي توفرها الشركات للعمال هي جزء آخر من المعاناة، الحافلات المزدحمة التي تنقل العمال من منازلهم إلى المعامل، غالبا ما تكون في حالة مزرية دون مراعاة للشروط الصحية أو الأمان، نوافذ هذه الحافلات تظهر جليا علامات الإرهاق والتعب عند العمال، من خلال النظرات المتعبة والبشرة الشاحبة والأجساد النحيلة نتيجة قلة النوم وسوء التغذية والضغوط النفسية الناتجة عن العمل في مثل هذه البيئة القاسية.
عقد العمل..الحبر على الورق
عقد العمل، الذي يفترض أن يكون الضامن لحقوق العمال، يتحول في كثير من الأحيان إلى مجرد حبر على ورق، إذ أشارت تقارير ميدانية إلى شهادات مجموعة من العمال يأكدون فيها على أن العديد من العقود تكتب بشكل غامض، مع إغفال تفاصيل مهمة مثل ساعات العمل الإضافية، التعويضات، وحتى طبيعة العمل نفسه.
المادة 15 من مدونة الشغل تلزم المشغل بتسليم العامل نسخة من العقد، مع توضيح جميع الشروط بشكل واضح.
لكن في الواقع، كثير من العمال يوقعون عقودا دون فهم محتواها، أو يجبرون على قبول شروط تعسفية تحت ضغط الحاجة إلى العمل.
هذا النوع من الاستغلال البشع يجبر الشباب المغربي الذي يبحث عن أي فرصة للهروب من شبح البطالة، على تحمل هذه الشروط اللاإنسانية، فبدلا من إيجاد فرص عمل لائقة، يجدون أنفسهم محاصرين في جحيم هذه الشركات التي تستنزف طاقاتهم وتستغل حاجتهم الماسة للعمل.
هذا دون أن ننسى النساء اللواتي يشكلن النسبة الأكبر من العمال في هذه المصانع، واللواتي يعانين من ظروف عمل أكثر قسوة، حيث أفادت شهادات بعض العاملات أنهن يتعرضن للتحرش الجنسي والجسدي والنفسي، مما يضطرهن إلى تحمل هذه الانتهاكات للحفاظ على وظائفهن، بالإضافة إلى ذلك، لا يتم مراعاة ظروف العاملات الحوامل، حيث يجبرن على العمل وقوفا لساعات طويلة دون منحهن أي تعويضات عن الولادة، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع قانون الشغل المغربي.
الشروط التعسفية..العمل فوق القانون
من أكثر الممارسات المثيرة للجدل هي الشروط التعسفية التي يفرضها المشغلون على العمال. الاتصالات المتكررة في أيام الراحة، المطالبة بالعمل في الأعياد دون تعويض، والتهديد بفقدان العمل في حال الرفض، كلها ممارسات تظهر أن العامل في معامل الكابلاج يعيش تحت وطأة خوف دائم من فقدان مصدر رزقه.
المادة 35 و 36 من مدونة الشغل تجرم هذه الممارسات، وتعطي للعامل الحق في رفض العمل في أيام الراحة دون أي تهديد، لكن غياب الرقابة الفعالة يجعل هذه النصوص مجرد كلمات دون تطبيق، خصوصا أنه يتم منعهم من الانخراط في العمل النقابي والمطالبة بحقوقهم العمالية وحرمانهم من الترقية كباقي الطبقة العاملة في المغرب.
العبودية وفق القانون
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لنصوص قانونية واضحة أن تخرق بهذا الشكل الصارخ؟ الإجابة تكمن في غياب الرقابة الفعالة، وضعف آليات التفتيش، بالإضافة إلى خوف العمال من فقدان وظائفهم إذا ما تقدموا بشكاوى.
معامل الكابلاج، التي تعتبر مصدرا للدخل للعديد من الأسر المغربية، تتحول في كثير من الأحيان إلى سجون بلا قضبان!العمال، الذين يفترض أن يكونوا المحرك الأساسي لهذه المنشآت، يتحولون إلى مجرد أرقام في معادلة الربح والخسارة!
هذه الظروف المزرية تكرس واقعا يشبه العبودية، حيث يتم تجاهل السلامة الصحية للعمال وعدم توفير وسائل نقل مناسبة أو أي من الحقوق العمالية الأساسية، وتزداد المعاناة مع الضغوط النفسية الناتجة عن العمل في مثل هذه البيئة التي لا تحترم كرامة العمال والعاملات.
في ظل هذا الوضع المأساوي، يطالب العمال بالتدخل العاجل من قبل الوزارة المعنية للوقوف على هذه الاختلالات وإنصاف العمال، من خلال تمكينهم من حقوقهم الاقتصادية، وإلا إلى متى ستستمر معاناة عمال وعاملات مصانع الأسلاك الكهربائية؟ وهل سيتم إنصاف هذه الفئة وتمتيعها بحقوقها الكاملة كباقي العمال في المغرب؟ وإلى متى ستستمر هذه الشركات في العمل خارج إطار قانون الشغل؟ وهل ستستمر الوزارة في الصمت تجاه هذه المعاناة الإنسانية؟
معامل الكابلاج في المغرب تشكل نموذجا صارخا للفجوة بين النصوص القانونية والواقع المعيش، فبينما تقدم مدونة الشغل إطارا قانونيا يفترض أن يحمي حقوق العمال، نجد أن الواقع يروي قصة مختلفة تماما.
هل يمكن أن نطلق على هذه الممارسات "عبودية العصر الحديث"؟ الإجابة قد تكون نسبية، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن هذه المعامل تشكل تحديا كبيرا للقانون وللضمير الإنساني، فهل آن الأوان لإعادة النظر في هذه الممارسات، أم أن صوت الآلات سيظل يغطي على صوت العمال؟
إقــــرأ المزيد
آخر الأخبار
- 11:39 مندوبية التخطيط: تحسن طفيف في مؤشر ثقة الأسر خلال 2024
- 11:23 تقرير يكشف تراجع جودة الخدمات الصحية
- 11:03 المحكمة تخفض عقوبة القاضية مليكة العامري
- 10:43 المغرب وبلجيكا يُعزّزان التعاون في مجال القضاء
- 10:30 سياسي أمريكي: المغرب شريك رئيسي للولايات المتحدة
- 10:27 العدوي تحيل 16 ملفا على القضاء
- 10:09 استئنافية البيضاء تصدر حكمها في قضية تعنيف الخادمة “كنزة”